الجمعة، 16 يناير 2009

المُجابهة .. قصة قصيرة

المُجابهة
بقلم : علاء محمود
هيئته لم تتبدل كثيراً . الشروق والغسق .اليوم والأمس . الشتاء والصيف . هذا العام والمنصرم . ذو صحة جيدة إذا قيس بعمره ، طويلاً ناحلاً ، واختفى أديم وجهه تماماً تحت التجاعيد ، وبرزت عظامه وتحددت كالجمجمة ، وفي عينيه غارت نظرة حازمة . في شبابه كان صلباً . الآن يهفو إلى تلك الصلابة .
حاله لم يتبدل هو أيضاً . السروال الأسود البالي . الطاقية الصوفية . السترة الجلدية الأثرية ، التي اهترأت تماماً ، وغشيتها البقع ، وثقبتها الثقوب . أخذ يجدف بأصابع يهرؤها البرد ، والأمواج تلطم جانبي القارب الخشبي المتهالك . البحر شاسع ، مهجور ، موحش . القمر البارد الشاحب يطل من خلال قضبان السحب . البرودة قاسية كمستودع من الجليد . الرياح هوجاء تثير الشجن في النفوس .
أقترب ببطء من الجزيرة الصخرية الجرداء . ثبت القارب جيداً بحبل غليظ ، وفي ذات الحبل ربط بداية حبل رفيع متين ، وقيد قدمه بنهايته . خلع سترته لتكشف عن (بول أوفر ) مثقوب في عدة مواقع . خلع نعليه . أشعل مصباحاً يدوياً مغلفا بالسلوفان . عبأ صدره بالهواء ، وغاص في أعماق المياة الباردة . الرجفة أعتلت أوصالة . غاص أكثر .الأعماق سوداء مدلهمة . المصباح كنقطة شاحبة يسبر أقل القليل . يعلم وجهته ، أو هو يأمل ذلك . هو ليس تحت رحمة أحد . لقد عركته الحياة وعرف الكثير . هل يتأت من هما أصغر منه ليحددا له مصير حياته ؟ لن يسمح بذلك أبداً . سيكون هو كما أراد ، أو يهلك .
الأكسجين يكاد ينفذ من رئتيه . يغوص أكثر . يتلمس القاع . ينبش . يبحث . الرمال تثور ، والبحر كذلك . يشعر به وهو يرجه كطفل صغير يلهو بدميته . كيف يلقيه حسان هكذا مجرداً من كل شيء ؟ هل تناسى أنه طوال أربعون عاماً يمارس مهنته ؟ يعلم الكثير . ذو خبرة كما تذكر الجرائد . هل تناسى أنه أول من فكر في ذلك العمل ؟ ولولا أن صديقه يملك المال ما كان الآن بمثل هذا السوء ، السوء الذي جعل عمار يهدده بالطرد من منزله ذو الحجرة المتفردة ، والصالة التي تشبه القبر . لا لن يدع حياته في يديهما . لعنة الله عليهما .
يصعد . يملأ صدره . يغوص . الأعماق تلتمع بالأزرق . أنه البرق . طنين الرعد يصله عبر أوتار الماء . أين أنتِ أيتها اللعينة ؟ أرجوكِ الوقت ليس في صالحي . القيد يشده بقوة . كاحله يكاد يتمزق . الألم يسرى بقدمه كالنار في الهشيم . يحاول التشبث بالقاع . لايجد غير الرمال التي ثارت وتلاشت بين أصابعه . يلمحها . أبتسامتها السرمدية تعلوها . يقبض عليها بشوق ، وشغف ، ونشوة ، وهيام . رآها منذ بضعة أيام عندما كان يغطس . خلبت لبه بحجمها وندرتها . أثنى على نفسه الآن أنه تركها ودفنها لحين الحاجة . لا يوجد من هو أحوج منه الآن .
هتف بأعماقه وبفرحة طاغية : أنا لم أشيخ بعد يا حسان . لقد غطست في هزيج الليل . لم يمنعني برد ولا رياح . أنت أحمق يا حسان . أحمق لأنك لا تعرف قدري . لا تعلم ما أنا قادر على أتيانه . لقد أنتصرت عليك .. وأنت يا عمار . هل تظن أن مأواي الجنة ؟ هي رفات موتي ، وقبر حياتي . أحمق أنت الآخر . بدلاً من أن تزهو بين الناس أنني أقطن في منزلك .. تبحث عن مالك . سأترك لك قبرك تمرح فيه . يوم تجدني من أكبر التجار ستلعن نفسك ألف مرة . هذا حق ، وهذا ما سيكون .
صعد بنشوة تعتري بدنه . تنفس هواء الحرية ، وتوجه إلى القارب . هاله ما رآى . القارب ممزق إلى ألف قطعة ، ويبعد قرون. السماء صارت غيوماً رمادية . القمر تلاشى تماماً . البحر يرغي ويزبد . يلطمه بقسوة ويدفعه لأسفل . يهتف لنفسه مذعوراً : أنا من هو الأحمق . ماذا سيضيرني من أنتظار بضعة أيام ؟ لا ما كان عمار ليصبر . الغد ميعاد ألقائه لي على قارعة الطريق . لا بل هو اليوم . اليوم بدأ ولن ينتهي . لقد أنتصرتما . نصرتكما ليست لكما . لا وألف لا . ملأ جسده بالعزم ونقله إلى ذراعيه . ضرب الماء بقوة . لطمة وراء لطمة . الصخور تبتعد بدلاً من ان تقترب . الماء يثور ويمسك بقطع القارب المحطم . يضرب بها الصخور بقوة وجبروت . العجوز يدفع جسده بقوة إلى الأمام . البحر يلطمه في صدره بقوة كاسحة ، ويلقيه إلى الخلف . يحاول التقدم . البحر كوحش فاغر فاهه ؛ يلقي الماء بعنف ويلطم به رأس العجوز . رأسه تدور ، وعيناه تدور في محجريهما . من كثرة الجهد ينشد الراحة ، والبحر من ثورته ينشد كل ما على سطحه . البرق يلمع يشق الأفق . الرعد يصرخ . المطر يهبط . بقوة يهبط . كقنابل تهوي وتتفجر . السواد يجثم ، والرياح تركض . العجوز صار في قلب الجحيم . جحيم بارد مائي . يحاول أن يلملم شتات نفسه المبعثرة على صفحة الماء . الموج يرتفع كالطود . كعملاق يدهس العجوز بقدمه. اليأس يدب في خلاياه . يسكن قلبه . يغزو عقله . الماء يغزو جوفه . يعب الهواء عباً . لن يسمح بأي احد ان يحتله . يغلق عينيه . يحاول تحديد جهاته .
أين الشاطي ؟ يبحث عن الجزيرة الصخرية ليتيقن من الأتجاه . الموج يغشى بصره وبصيرته . الظلام كذلك . قوى الطبيعة تتوحد لهزيمته ، ومن هو ليهزمها ؟ يسكن جسده . يستسلم للمعركة . يترك نفسه لتلهو بها الأمواج ، وتعبث بها الرياح .
تساءل : ترى هل ما زالت زوجته تنتظره على العشاء ؟ أم أستسلمت للنوم من كدها طيلة اليوم . مسكينة أنتِ يا عزيزتي . ستُطردين وتترملين في آن واحد . آلا يكفي أن الموت اخذ أبنتنا تاركاً لنا صغارها ، وزوجها ذهب باحثاً عن آخرى . الصغار هل تقوتوا ؟ هل وجدتي شيئاً صالحاً للأكل ؟ ألتمعت أخاديد وجهه بالماء . لا يعلم أهو البحر حقاً أم أنها دموعه . كلاهما مالح .
الأمواج تدفعه إلى أعلى ، وتدفنه في الأسفل . لا . لن يُهزم . سينتصر . أو على الأقل سيقاوم . جال بعينيه الأفق . يبحث . ينقب . الأمواج تدفعه للأعلى . يلمح أضواء بعيدة بعيدة . يتساءل : هل هو بر الآمان ؟ أم سفينة شاردة . يضرب سطح الماء بعزيمة من فولاذ . يتقدم رويداً رويداً . الأمطار تنقر رأسه ، والبحر يكشر عن أنيابه . العجوز لا يجد الهواء . ماء فقط . ماء يكتنفه ويغلفه . يمزق ستار الماء عن جسده بعنف ، ويندفع إلى الأمام . الموج يقيده ويسحبه إلى الأعماق . يحطم القيد . البحر لا يستسلم . يصهره داخل بوتقته . العجوز يسخر منه ويقفز بعيداً كالدولفين . الرياح تساند الأمواج . تهب عليه لتقتلعه وترميه للأمواج . الأمواج تتلقفه وتدفنه . الظلام يغزل شباكه ويطوحها تجاه حواس العجوز . العجوز مكبل بألف قيد . فاقد الأتجاه . يأس . واهن . محطم النفس . إلى الأعماق يهبط . يحرك قدميه . يدفع جسده . يحاول التحرر من معتقل الطبيعة . الماء ينزاح ويكشف عن هواء يتدافع إلى صدره . البرودة ترجف كل خلاياه . تجمد دمائه ، وتجمد كيانه . قلبه يخفق في سرعة . يسخن عروقه في محاولة لأذابة الجليد . العضلات تستسلم . تتيبس . العقل يأبى . يحاول شحنها بالطاقة . العجوز يعاود الكرة . يراوغ الطبيعة . عقله يدفع في جسده النشاط ، وقلبه يحاول منحه كماً وافراً من التدفئة . عضلاته تستيقظ من سباتها وتتمطى نافضة عنها الخمول . ينجح في التقدم قليلاً . لا يعلم هل هو بالأتجاه الصحيح ، أم الأمواج أدارته إلى أتجاه آخر ؟ يتقدم غير مبال . بالأرادة يتقدم . الأمواج تجذبه يميناً ويساراً . تؤرجحه . سياط مائية تنهال عليه ، والبرودة تحاول أن تصنع منه تمثالاً ثلجياً . تحفر الأصابع ، وترسم العضد والزند . القلب يستميت كي يشرخ ما صنعته يديها . قبضة جليدية تعصر القلب . تثبط نشاطه وحيويته . يوهن وتتضاءل قواه . يخفت ، وإلى طريق الهلاك يهوى . الجسد تقل حركته . يسير في طريق القلب . العقل يشعر بالعجز . بيده يجاهد لأنتشال القلب والجسد . يحاول أن يعيدهما بجواره . يثقلان كاهله ويجذبانه معهما . إلى الأعماق الكل يسقط . البحر يقهقه في توحش ، والرياح تصفق . أصابع تخترق قلب البحر . يتبعها جسد . العجوز يرفض أن يرفع راية الهزيمة . سائر الجسد يسانده . يعمل متضافراً في سبيل الأنتصار . تتجمد أبتسامة البحر . يثور أكثر وأكثر . ينتفخ من الغضب . يدفع جيشاً من الأمواج . الرياح تزيد الأمواج قوة . العجوز يشق الأمواج . يهزمها واحدة واحدة . الجيش لا يحصى . العجوز لا يُقهر . صار مقاتلاً صنديداً . بكفاه يلطم موجة وراء موجة . البحر يزمجر . الرياح تثور ، والغيوم تبكي . العجوز يتقهقر . يقاوم . يتقدم . الماء يتسلل إلى شفتيه ، وينسكب في جوفه . الملح يكوي عينيه . البرودة تلطم وجهه . الماء يعتقله . الهزيمة تلوح . لن يستسلم أبداً . يطرد الماء . يخترق الأمواج . يقاوم الألم . يتحمل . يتقدم ويتقدم . الظلام يوسوس إلى عقله . يطليه بالسواد . عقله يسخر . يخترق الظلام بدهاء . يحرك الجسد أكثر . العجوز في اوج معركته . البحر كذلك . الرياح تزوم مترقبة لحظة أنقضاضها . تتساءل : من سينتصر ومن سيهزم ؟ تتوحد مع الأمواج . الأمواج تفور . تعلو وتعلو . تنهال من كل صوب وأتجاه . تحاول تمزيق العجوز إلى أشلاء . العجوز يصيح ويصرخ . يثور . يقاوم . يتقدم . بكل ما بداخله من عناد وبأس يتقدم . الأمواج تتحفز . كالقناص تتربص . الشاطيء يلوح من بعيد . الأضواء تتلوى . ترقص . تطرب ، والخطر يتحفز من كل صوب . يتجمع ليضرب . بكل قواه سيضرب . يأمل أن تكون ضربته كاسحة . قاصمة . قاضية . يتراجع ويتراجع ، وبكل القوة والعنف يضرب . بأكتساح يضرب . كمارد جبار يضرب . ينزاح ليرى النتيجة . العجوز تلاشى في قلب العدم .
البحر يتساءل : تُرى هل أنتصر هذه المرة ؟
ظل متأملاً . حائراً ، وبقى سؤاله بلا جواب على صفحته المتموجة .

******
أشرقت شمس الصباح حامية كعادة المناطق القريبة من خط الأستواء . نشرت أشعتها الذهبية ، وجففت بنشاط أثار الأمس العاصف . وعلى الشاطيء الرملي أنسحبت الأمواج بنعومة ودعة بعد أن بللت أطراف الشاطيء ، وهدأت ثورتها . أقدام كثيرة نشطة ، قلقة ، تتجمع كغابة من الأشجار . أيادي عديدة بحسرة تتلمس قطع ملقاه من الخشب . يد تنتشل سترة أثرية من الجلد .
صوت يعلو بحزن : لقد قضي العجوزالمسكين نحبه .

صوت آخر : لقد أخذ أحد قوارب المعلم حسان . القارب لم يعُد يصلح حتى لصناعة مقعد .
تأمل المعلم حسان الجمع المحتشد ، وركع يتفحص أجزاء القارب ، وقال بأسف صادق : كم كنت أقدره وأحترمه .

صاح عمار بثورة : الآن تحترمه ! بعد أن أبعدته عن العمل لكبر سنه ، تبكيه الآن !
وجم حسان ودهش ، وقال بحيرة : أنا ! أنا أعلم الناس به ، وكنت سأنصبه شيخاً لصائدي اللؤلؤ . أنه أنت . نعم أنت الذي هددته بالطرد . أتسكنه أحقر مكان ، وتهدده لتأخره عن سداد الإيجار .
هدر عمار بعنف ، وقال : ماذا كنت تريدني أن أفعل بعد أن علمت أنه صار بلا عمل؟ أنت من تسببت في كل هذا . أنت من تسببت في إبحاره ليلاً بقانونك الظالم ، وحراسك الذين يجوبون الشاطي يمنعون من يرغب في الصيد غيرك . هل ملكت البحر وخيراته ؟
حفر الحزن ملامح حسان ، وترقرقت عينيه بالدموع ، وغمغم في خفوت : حقاً أنا السبب .. أنا من قتلته . أطرق راسه بندم وأستطرد : أغفر لي يا الله .

******
على الجانب البعيد من الشاطي ، تمددت جثة العجوز . الطحالب تتخللها وتتعانق مع شعره المشعث . البلل يحتل أجزاء من ملابسه ، وأجزاء آخرى جففتها آشعة الشمس. حركة بسيطة ندت عن أصابعه . بسيطة للغاية لا تكاد تُرى . الحركة تتضخم . وذراعه تتحرك . تتحسس طيات ملابسة في حذر ، وتخرج قابضة على محارة كبيرة الحجم . العجوز يتحرك بوهن . يفتح المحارة ويتأمل اللؤلؤة البيضاء المشربة بلون وردي. على وجهه تعلو علامة ظفر . لقد أنتصر .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق