الجمعة، 16 يناير 2009

خريف بنكهة الفانيلا .. قصة قصيرة



خريف بنكهة الفانيلا
بقلم : علاء محمود

في كل ليلة إذا الصمت جاء النسيم يداعب المدى . يرقص مع الأزهار وأريجها. يذروها كى يتنشقها؛ فينسل بين الشرايين والأفئدة. 
عيناه شاخصتان ترنو إلى الأبعاد، والأبعاد تٌحدد تجليات . التجليات تنزاح عن أرض مخضلة تفتأ نضراَ . مروجاً غناء . ألوان شتى من الورود والفاكهة والأعناب، شذاها يعبق المكان . عنادل تشدو في الوجود، وفراشات تدنو من الياسمين المغموسة بالندى.يخطو الأرض المعشوشبة، يتأمل السحر الآخاذ . يتعمق في حواشيه و يمتزج في ذاته غورا . يركب أجنحته ويحلق في هيام .. ها هي ترتكن إلى شجرة سرو، وبجوارها جدول ذهبي يفيض سلسبيلاً متلألأً . بين كفيها يقبع القمر بلور نقي مليء بسائل نوراني . في جوفه زهور الفانيلا .

يتنشق أريجها ويزيد . 

*****

الشمس قرص اصطبغ بالأحمر القاني . حفحفات الخريف في ذبول واندحار، تحيل العشب إلى هشيم تذروه الرياح . الأشجار تحترق والأوراق تفقد النضرة . تصفر وتتهشم على الأرض الجرداء . العنادل تفر . الخريف يغزو . السماء دم . تكشط عن عاتقه أبجدية النهاية .

*****

تداعيات غفت أسفل الغمام . الأمنيوسي يحيط به .. يتعلق كالوطواط . يستبطن العالم ويستجليه . يغمس خطوته ثم يجترها . الزغب يتناثر على حناياه . يبتغي الظل والزاد والمورد . من الخزى والفشل ملء نصابه . يقوده من تيه إلى تيه .استجدي انتماءه لكنه إستحال حجرا . 

*****

في سديم الفضاء مدار النجوم تغير، وفي إشراقته الأولى غريب مزقه الشتات، و بساط من تعب افترشه . لكن كيانه امتلأ حبوراً .. في الليل دمعته تكويه . لكن أطياف البعد تنير قلبه المسهد، وتمنحه هبات نسيم تنعش ذاته. 

*****

المدينة نائمة و ميادينها الجهْمةِ خَاويهْ، والصمت في الأروقة . نار الشر تستعر . الهدوء يجثم .
الأطلال تنتصب، ومن جوفها تندلع الحمم الملتهبة . السماء ترعد وتجلجل و تمطر شواظا ونيازك، والليث مشرد النفس، يضحى نعجة مذعورة، ويختبيء في جحر. 

*****

أمسكوه وعلى الأرض سحلوه . يصرخ ويصرخ . كذبوه . أخذوه . على المقعد كبلوه . جردوه كيوم مولده . الإبر الملتهبة بين الظفر واللحم . صرخاته تتعالى في عذاب لا يتوقف لهنيهة . 
الكلابات المعدنية تنتزع أظافره، والمطارق تفرم لحمه بعظامه . 
يصرخ ويصرخ .
جلدوه ومزقوه . أحرقوا جلده وفي زنزانة ضيقة رطبة ألقوه .
يرقد بجسد مثخن بالجراح . يصرخ من الألم . الأرض تندى بماء يستحيل بردا . الزنزانة تئن والباب يصر . تدلف كلاب سوداء بشعة جائعة . تنهش لحمه وتمضغ عظامه .
يصرخ بحنجرة تكاد تتمزق . صراخه يزيد وعذابه فوق طاقة البشر . عذاب يلهب مركزه العصبي . يئن بصوت هادر : آه .

أخرجوا جسده المتمزق وأجزاءه المفقودة . وعدوه بتطهير ما تخثر .

*****

الجدران تذوب، تتحلل . تنتصب مكانها جدران آخرى بيضاء، وفراش أبيض وملاءة . من الشرفة يلمحه يرفرف كانتمائه مزدانا بنجوم خضراء . الصراخ يتعالى يكاد يهدم الجدار. يبغي الراحة من الآلام التي لا تطاق . كان دواؤه هو الداء .. إلى الفراش كبلوه، وبالمحقن وخزوه . يتلاشى الألم، ويتجلى الفردوس المنشود.

*****

الفردوس يحترق .الموجودات تتلاشى . أمسى على شفا جرف هار . الموجودات تضمحل إلى شفرة حادة . النيران تتأجج . الإتزان يُفقد . النيران تستعر . يهوي ويهوي . الجحيم يتلقفه ويمتزجان معاً في عذاب أبدي .

ساعة الغسق جثته ملقاة، وعلى السطح الزجاجي بقايا من مسحوق أبيض .

المُجابهة .. قصة قصيرة

المُجابهة
بقلم : علاء محمود
هيئته لم تتبدل كثيراً . الشروق والغسق .اليوم والأمس . الشتاء والصيف . هذا العام والمنصرم . ذو صحة جيدة إذا قيس بعمره ، طويلاً ناحلاً ، واختفى أديم وجهه تماماً تحت التجاعيد ، وبرزت عظامه وتحددت كالجمجمة ، وفي عينيه غارت نظرة حازمة . في شبابه كان صلباً . الآن يهفو إلى تلك الصلابة .
حاله لم يتبدل هو أيضاً . السروال الأسود البالي . الطاقية الصوفية . السترة الجلدية الأثرية ، التي اهترأت تماماً ، وغشيتها البقع ، وثقبتها الثقوب . أخذ يجدف بأصابع يهرؤها البرد ، والأمواج تلطم جانبي القارب الخشبي المتهالك . البحر شاسع ، مهجور ، موحش . القمر البارد الشاحب يطل من خلال قضبان السحب . البرودة قاسية كمستودع من الجليد . الرياح هوجاء تثير الشجن في النفوس .
أقترب ببطء من الجزيرة الصخرية الجرداء . ثبت القارب جيداً بحبل غليظ ، وفي ذات الحبل ربط بداية حبل رفيع متين ، وقيد قدمه بنهايته . خلع سترته لتكشف عن (بول أوفر ) مثقوب في عدة مواقع . خلع نعليه . أشعل مصباحاً يدوياً مغلفا بالسلوفان . عبأ صدره بالهواء ، وغاص في أعماق المياة الباردة . الرجفة أعتلت أوصالة . غاص أكثر .الأعماق سوداء مدلهمة . المصباح كنقطة شاحبة يسبر أقل القليل . يعلم وجهته ، أو هو يأمل ذلك . هو ليس تحت رحمة أحد . لقد عركته الحياة وعرف الكثير . هل يتأت من هما أصغر منه ليحددا له مصير حياته ؟ لن يسمح بذلك أبداً . سيكون هو كما أراد ، أو يهلك .
الأكسجين يكاد ينفذ من رئتيه . يغوص أكثر . يتلمس القاع . ينبش . يبحث . الرمال تثور ، والبحر كذلك . يشعر به وهو يرجه كطفل صغير يلهو بدميته . كيف يلقيه حسان هكذا مجرداً من كل شيء ؟ هل تناسى أنه طوال أربعون عاماً يمارس مهنته ؟ يعلم الكثير . ذو خبرة كما تذكر الجرائد . هل تناسى أنه أول من فكر في ذلك العمل ؟ ولولا أن صديقه يملك المال ما كان الآن بمثل هذا السوء ، السوء الذي جعل عمار يهدده بالطرد من منزله ذو الحجرة المتفردة ، والصالة التي تشبه القبر . لا لن يدع حياته في يديهما . لعنة الله عليهما .
يصعد . يملأ صدره . يغوص . الأعماق تلتمع بالأزرق . أنه البرق . طنين الرعد يصله عبر أوتار الماء . أين أنتِ أيتها اللعينة ؟ أرجوكِ الوقت ليس في صالحي . القيد يشده بقوة . كاحله يكاد يتمزق . الألم يسرى بقدمه كالنار في الهشيم . يحاول التشبث بالقاع . لايجد غير الرمال التي ثارت وتلاشت بين أصابعه . يلمحها . أبتسامتها السرمدية تعلوها . يقبض عليها بشوق ، وشغف ، ونشوة ، وهيام . رآها منذ بضعة أيام عندما كان يغطس . خلبت لبه بحجمها وندرتها . أثنى على نفسه الآن أنه تركها ودفنها لحين الحاجة . لا يوجد من هو أحوج منه الآن .
هتف بأعماقه وبفرحة طاغية : أنا لم أشيخ بعد يا حسان . لقد غطست في هزيج الليل . لم يمنعني برد ولا رياح . أنت أحمق يا حسان . أحمق لأنك لا تعرف قدري . لا تعلم ما أنا قادر على أتيانه . لقد أنتصرت عليك .. وأنت يا عمار . هل تظن أن مأواي الجنة ؟ هي رفات موتي ، وقبر حياتي . أحمق أنت الآخر . بدلاً من أن تزهو بين الناس أنني أقطن في منزلك .. تبحث عن مالك . سأترك لك قبرك تمرح فيه . يوم تجدني من أكبر التجار ستلعن نفسك ألف مرة . هذا حق ، وهذا ما سيكون .
صعد بنشوة تعتري بدنه . تنفس هواء الحرية ، وتوجه إلى القارب . هاله ما رآى . القارب ممزق إلى ألف قطعة ، ويبعد قرون. السماء صارت غيوماً رمادية . القمر تلاشى تماماً . البحر يرغي ويزبد . يلطمه بقسوة ويدفعه لأسفل . يهتف لنفسه مذعوراً : أنا من هو الأحمق . ماذا سيضيرني من أنتظار بضعة أيام ؟ لا ما كان عمار ليصبر . الغد ميعاد ألقائه لي على قارعة الطريق . لا بل هو اليوم . اليوم بدأ ولن ينتهي . لقد أنتصرتما . نصرتكما ليست لكما . لا وألف لا . ملأ جسده بالعزم ونقله إلى ذراعيه . ضرب الماء بقوة . لطمة وراء لطمة . الصخور تبتعد بدلاً من ان تقترب . الماء يثور ويمسك بقطع القارب المحطم . يضرب بها الصخور بقوة وجبروت . العجوز يدفع جسده بقوة إلى الأمام . البحر يلطمه في صدره بقوة كاسحة ، ويلقيه إلى الخلف . يحاول التقدم . البحر كوحش فاغر فاهه ؛ يلقي الماء بعنف ويلطم به رأس العجوز . رأسه تدور ، وعيناه تدور في محجريهما . من كثرة الجهد ينشد الراحة ، والبحر من ثورته ينشد كل ما على سطحه . البرق يلمع يشق الأفق . الرعد يصرخ . المطر يهبط . بقوة يهبط . كقنابل تهوي وتتفجر . السواد يجثم ، والرياح تركض . العجوز صار في قلب الجحيم . جحيم بارد مائي . يحاول أن يلملم شتات نفسه المبعثرة على صفحة الماء . الموج يرتفع كالطود . كعملاق يدهس العجوز بقدمه. اليأس يدب في خلاياه . يسكن قلبه . يغزو عقله . الماء يغزو جوفه . يعب الهواء عباً . لن يسمح بأي احد ان يحتله . يغلق عينيه . يحاول تحديد جهاته .
أين الشاطي ؟ يبحث عن الجزيرة الصخرية ليتيقن من الأتجاه . الموج يغشى بصره وبصيرته . الظلام كذلك . قوى الطبيعة تتوحد لهزيمته ، ومن هو ليهزمها ؟ يسكن جسده . يستسلم للمعركة . يترك نفسه لتلهو بها الأمواج ، وتعبث بها الرياح .
تساءل : ترى هل ما زالت زوجته تنتظره على العشاء ؟ أم أستسلمت للنوم من كدها طيلة اليوم . مسكينة أنتِ يا عزيزتي . ستُطردين وتترملين في آن واحد . آلا يكفي أن الموت اخذ أبنتنا تاركاً لنا صغارها ، وزوجها ذهب باحثاً عن آخرى . الصغار هل تقوتوا ؟ هل وجدتي شيئاً صالحاً للأكل ؟ ألتمعت أخاديد وجهه بالماء . لا يعلم أهو البحر حقاً أم أنها دموعه . كلاهما مالح .
الأمواج تدفعه إلى أعلى ، وتدفنه في الأسفل . لا . لن يُهزم . سينتصر . أو على الأقل سيقاوم . جال بعينيه الأفق . يبحث . ينقب . الأمواج تدفعه للأعلى . يلمح أضواء بعيدة بعيدة . يتساءل : هل هو بر الآمان ؟ أم سفينة شاردة . يضرب سطح الماء بعزيمة من فولاذ . يتقدم رويداً رويداً . الأمطار تنقر رأسه ، والبحر يكشر عن أنيابه . العجوز لا يجد الهواء . ماء فقط . ماء يكتنفه ويغلفه . يمزق ستار الماء عن جسده بعنف ، ويندفع إلى الأمام . الموج يقيده ويسحبه إلى الأعماق . يحطم القيد . البحر لا يستسلم . يصهره داخل بوتقته . العجوز يسخر منه ويقفز بعيداً كالدولفين . الرياح تساند الأمواج . تهب عليه لتقتلعه وترميه للأمواج . الأمواج تتلقفه وتدفنه . الظلام يغزل شباكه ويطوحها تجاه حواس العجوز . العجوز مكبل بألف قيد . فاقد الأتجاه . يأس . واهن . محطم النفس . إلى الأعماق يهبط . يحرك قدميه . يدفع جسده . يحاول التحرر من معتقل الطبيعة . الماء ينزاح ويكشف عن هواء يتدافع إلى صدره . البرودة ترجف كل خلاياه . تجمد دمائه ، وتجمد كيانه . قلبه يخفق في سرعة . يسخن عروقه في محاولة لأذابة الجليد . العضلات تستسلم . تتيبس . العقل يأبى . يحاول شحنها بالطاقة . العجوز يعاود الكرة . يراوغ الطبيعة . عقله يدفع في جسده النشاط ، وقلبه يحاول منحه كماً وافراً من التدفئة . عضلاته تستيقظ من سباتها وتتمطى نافضة عنها الخمول . ينجح في التقدم قليلاً . لا يعلم هل هو بالأتجاه الصحيح ، أم الأمواج أدارته إلى أتجاه آخر ؟ يتقدم غير مبال . بالأرادة يتقدم . الأمواج تجذبه يميناً ويساراً . تؤرجحه . سياط مائية تنهال عليه ، والبرودة تحاول أن تصنع منه تمثالاً ثلجياً . تحفر الأصابع ، وترسم العضد والزند . القلب يستميت كي يشرخ ما صنعته يديها . قبضة جليدية تعصر القلب . تثبط نشاطه وحيويته . يوهن وتتضاءل قواه . يخفت ، وإلى طريق الهلاك يهوى . الجسد تقل حركته . يسير في طريق القلب . العقل يشعر بالعجز . بيده يجاهد لأنتشال القلب والجسد . يحاول أن يعيدهما بجواره . يثقلان كاهله ويجذبانه معهما . إلى الأعماق الكل يسقط . البحر يقهقه في توحش ، والرياح تصفق . أصابع تخترق قلب البحر . يتبعها جسد . العجوز يرفض أن يرفع راية الهزيمة . سائر الجسد يسانده . يعمل متضافراً في سبيل الأنتصار . تتجمد أبتسامة البحر . يثور أكثر وأكثر . ينتفخ من الغضب . يدفع جيشاً من الأمواج . الرياح تزيد الأمواج قوة . العجوز يشق الأمواج . يهزمها واحدة واحدة . الجيش لا يحصى . العجوز لا يُقهر . صار مقاتلاً صنديداً . بكفاه يلطم موجة وراء موجة . البحر يزمجر . الرياح تثور ، والغيوم تبكي . العجوز يتقهقر . يقاوم . يتقدم . الماء يتسلل إلى شفتيه ، وينسكب في جوفه . الملح يكوي عينيه . البرودة تلطم وجهه . الماء يعتقله . الهزيمة تلوح . لن يستسلم أبداً . يطرد الماء . يخترق الأمواج . يقاوم الألم . يتحمل . يتقدم ويتقدم . الظلام يوسوس إلى عقله . يطليه بالسواد . عقله يسخر . يخترق الظلام بدهاء . يحرك الجسد أكثر . العجوز في اوج معركته . البحر كذلك . الرياح تزوم مترقبة لحظة أنقضاضها . تتساءل : من سينتصر ومن سيهزم ؟ تتوحد مع الأمواج . الأمواج تفور . تعلو وتعلو . تنهال من كل صوب وأتجاه . تحاول تمزيق العجوز إلى أشلاء . العجوز يصيح ويصرخ . يثور . يقاوم . يتقدم . بكل ما بداخله من عناد وبأس يتقدم . الأمواج تتحفز . كالقناص تتربص . الشاطيء يلوح من بعيد . الأضواء تتلوى . ترقص . تطرب ، والخطر يتحفز من كل صوب . يتجمع ليضرب . بكل قواه سيضرب . يأمل أن تكون ضربته كاسحة . قاصمة . قاضية . يتراجع ويتراجع ، وبكل القوة والعنف يضرب . بأكتساح يضرب . كمارد جبار يضرب . ينزاح ليرى النتيجة . العجوز تلاشى في قلب العدم .
البحر يتساءل : تُرى هل أنتصر هذه المرة ؟
ظل متأملاً . حائراً ، وبقى سؤاله بلا جواب على صفحته المتموجة .

******
أشرقت شمس الصباح حامية كعادة المناطق القريبة من خط الأستواء . نشرت أشعتها الذهبية ، وجففت بنشاط أثار الأمس العاصف . وعلى الشاطيء الرملي أنسحبت الأمواج بنعومة ودعة بعد أن بللت أطراف الشاطيء ، وهدأت ثورتها . أقدام كثيرة نشطة ، قلقة ، تتجمع كغابة من الأشجار . أيادي عديدة بحسرة تتلمس قطع ملقاه من الخشب . يد تنتشل سترة أثرية من الجلد .
صوت يعلو بحزن : لقد قضي العجوزالمسكين نحبه .

صوت آخر : لقد أخذ أحد قوارب المعلم حسان . القارب لم يعُد يصلح حتى لصناعة مقعد .
تأمل المعلم حسان الجمع المحتشد ، وركع يتفحص أجزاء القارب ، وقال بأسف صادق : كم كنت أقدره وأحترمه .

صاح عمار بثورة : الآن تحترمه ! بعد أن أبعدته عن العمل لكبر سنه ، تبكيه الآن !
وجم حسان ودهش ، وقال بحيرة : أنا ! أنا أعلم الناس به ، وكنت سأنصبه شيخاً لصائدي اللؤلؤ . أنه أنت . نعم أنت الذي هددته بالطرد . أتسكنه أحقر مكان ، وتهدده لتأخره عن سداد الإيجار .
هدر عمار بعنف ، وقال : ماذا كنت تريدني أن أفعل بعد أن علمت أنه صار بلا عمل؟ أنت من تسببت في كل هذا . أنت من تسببت في إبحاره ليلاً بقانونك الظالم ، وحراسك الذين يجوبون الشاطي يمنعون من يرغب في الصيد غيرك . هل ملكت البحر وخيراته ؟
حفر الحزن ملامح حسان ، وترقرقت عينيه بالدموع ، وغمغم في خفوت : حقاً أنا السبب .. أنا من قتلته . أطرق راسه بندم وأستطرد : أغفر لي يا الله .

******
على الجانب البعيد من الشاطي ، تمددت جثة العجوز . الطحالب تتخللها وتتعانق مع شعره المشعث . البلل يحتل أجزاء من ملابسه ، وأجزاء آخرى جففتها آشعة الشمس. حركة بسيطة ندت عن أصابعه . بسيطة للغاية لا تكاد تُرى . الحركة تتضخم . وذراعه تتحرك . تتحسس طيات ملابسة في حذر ، وتخرج قابضة على محارة كبيرة الحجم . العجوز يتحرك بوهن . يفتح المحارة ويتأمل اللؤلؤة البيضاء المشربة بلون وردي. على وجهه تعلو علامة ظفر . لقد أنتصر .





تمرُد على أرض الشقاء .. قصة قصيرة



تمرُد على أرض الشقاء
بقلم : علاء محمود

وقف ( سعيد ) يحرك قطع الأخشاب في مهارة ، ويلقمها لأسنان المنشار الذي أخذ يلتهم أطرافها في سرعة ، لتتناثر القطع الهشة مختلطة برائحة الخشب الساخن من أثر الأحتكاك .
تعالت دقات الساعة لتعلن وقت الأنصراف ؛ لتتلاشى أصوات الماكينات وتتوقف أيدي العاملين والعاملات.. بينما أخذ ( سعيد ) ينظف زيه الأزرق من الشوائب العالقة به ؛ لكي يلحق بالجمع المنصرف كأسراب النمل المنظم .

-لا تتسرع وتهدم حياتك .
نطقها الأسطى ( زكريا ) رئيس العمال بصوته الحاد الرفيع ، والذي لا يتناسب مع حجمه الضخم ، ووجهه المكتنز .
نطقها وهو يصوبها تجاه ( سعيد ) .. ألتفت (سعيد ) إليه بلبٌ شارد وبلا إكتراث .

و(سعيد ) في هذه اللحظة لم يكن أبداً سعيداً بأي حال من الأحوال .. حتى منذ مولده لم يعرف لأسمه طعماً.. كان يبدو وكأنه يعاني التعاسة منذ الأزل ، فنشأته الأولى كانت داخل ملجأ للأيتام .. كان يفتقد الدفء والآمان والطمأنينة .. يفتقد أي شيء يربطه بعالم البشر ، وعندما غادر إلى الحياة العامة وجدها أقسى عليه وأمر ..لا شيء لا معنى لا طعم ..إلا إحساس متغلغل داخل أعماقه .. إحساس بالظلم والقهروالفشل ، وأن لابد من خطأ ما في الكون جعله بمثل هذه التعاسة .. عانى فراغ الجوف ولسع الأسفلت ، وذاق البرودة القاسية المتوغلة داخل العظام .. عندما جائته فرصة العمل داخل مصنع الأخشاب هذا .. ظن أنه يهذي .. لكنها كانت حقيقة ، وعندما تسلم أول راتب أدرك أنها الحقيقة .. هذا لأن الراتب ضئيل كما يجب أن يكون ، ولو كان العائد كبير لأدرك أن هناك خدعة كونية ما ! حتى هيئته لم تضف لإسمه أي رابط ، فهو نحيف كما يجب ان تكون النحافة .. خمري البشرة وشعيرات ذقنه تتناثر عليها في عشوائية .. عيناه غائرتان من كثرة السهاد ، والسهاد من كثرة التفكير في مستقبله الداكن ، ومستقبله غامض ، وإن كانت البداية تبشر بما ستأتي به النهاية .. حتى جحره الذي يأويه كل ليلة يبشر بذلك ، فهو عبارة عن حجرة ملقاه فوق سطح عمارة متهالكة ومهددة بالسقوط في أية لحظة .

و( زكريا ) كان يعلم كل هذا بحكم الصداقة الأبوية التي نشأت بينهما .. كان يتخذ ( سعيد ) كولده الذي لم ينجبه ، وسعيد كان يجد فيه الأبوة والمتنفث لمكنون قلبه وعقله .. وها هو( زكريا ) الآن يحاول منعه حباً وإشفاقاً ، ويأمل أن يعيده إلى صوابه .. لكن نظرات ( سعيد ) كانت مصوبة هناك ، نحو ركن قصي مخصص للفتيات .. وأدرك ( زكريا) أن سبب نظرات ( سعيد ) هي ( زينب ) .

تلك الفتاة البسيطة ،الرقيقة ، الحنونة ، الشهمة ، الخجولة ، ذات الملامح السمراء الدقيقة ، والجسد الرقيق ، والنظرة الملائكية .. لم تكن جميلة لكن جمالها الداخلي منح مظهرها رونقاً وبهاءً .. منذ اليوم الأول لها في العمل خلبت لٌبه .. كل حركة من أصابعها وهي تشذب قطع الأقمشة تفتنه ، كل إبتسامة خجلة تٌسكره .. شعر بمذاق إسمه أخيراً وهو ساهر ليلاً يتأمل وجهها بين النجوم .. كانت كوكبه الدري السرمدي الذي يضيء لياليه .. كل ما بها كان يفتنه .. بسمتها ونسمتها وهمستها وأريجها وحسها الندى.. حبها منح لحياته حياة وأفقده ذكريات الشقاء .. أحست هي بمكنون قلبه من نظراته الولهه التي تترقبها في كل حركاتها وسكناتها ، وإبتسامة البهجة التي ترتسم على شفتيه كلما رآها ، وبدأ التجاذب بين قلبيهما وثمرة الحب تنمو وتتسع ؛ لتملأ كيانهما بالنشوة والسعادة ، وتتبدل النظرات والإبتسامات إلى همسات ، والهمسات إلى جلسات .

لكن مع الحب آتى العذاب ، وعذابه في فقره .. لكن رابط الحب أقوى .. يكفيه أنه جعله ينسى كل آلامه وعذابه ويتذوق للمرة الأولى طعم البهجة والسرور ..
بدأ يبذل جهداً مضاعفاً كي يحقق الحلم .. ولذلك بدأ فعلياً في توفير كل قرش.. كان يذهب إلى عمله مترجلاً يمتطي صهوة حذائه .. وعلى الرغم من طول المسافة إلا أنه تحمل كما يجب أن يتحمل الرجال ..
حتى طعامه أقتصر على شطيرتين ..واحدة وقت الراحة والثانية في المساء .. لكن للأسف لم يكف هذا إلا لتوفير أقل القليل ، فكل شيء في إرتفاع مُطرد .. لذلك عمل على مزيد من الخطوات المسددة ، وبدأ في عمل إضافي حر .. كان يقف أمام أحد المقاهي ليبيع تركيبات العطور ، ويتحمل الكثير مما يلاقيه من أحقاد ومطاردات ومهانة .. لكن مجهوده للأسف لم يؤتي ثماره .
شيئاً فشيئاً بدأ يفقد نضارته وحيويته .. خبى بريق عينيه وتلاشت إبتسامته وشحب وجهه حتى كاد يحاكى المومياوات .. لقد أثر عليه الجهد المضاعف المبذول وقلة الغذاء .. شعرت ( زينب ) بما يعتريه وبكت كثيراً.. بكت وهي تراه كالزهرة التي فقدت مصدرها المائي .. سهدت كثيراً وأحترق عقلها ؛ ليخرج قرارها بالأنفصال .
يومها أصابه الذهول العارم و كاد أن يجن ، وسألها : لماذا ؟
أجابته وهي تنتحب : لأنني أحبكِ ..
شعر بالحيرة وهو يقول : وهل من يحب أحد يتركه ؟
قالت له في ألم : ألا ترى ما أصبحت عليه .. إنكِ تفقد حياتك تدريجياً .
زاغت نظراته وهو يقول : سأفقدها أكثر لو تركتيني .
غشت الدموع بصرها وهي تتمتم : كٌنت تحيا من قبلي .. وستحيا أكثر من بعدي .. يجب أن يزول السبب والمتسبب .
وذهبت .. ذهبت لتترك داخل كيانه فراغ ينهشه وألم يدمي فؤاده ؛ كوحش طاغي يلتهم فريسته ، يطمس عقله وإدراكه ، ويصب حمم ملتهبة في جوفه حتى يطفح بها .. شعر وقتها أن لاشيء يستحق .. لذلك جاء قراره بالتمرد .. لن يقتصد بعد الآن .. سيلتهم كل ما يشتهيه جوفه مهما كان باهظاً .. سيدخن أفخر أنواع السجائر .. سيقضي لياليه داخل الملاهي الليلة ، وبين أحضان الساقطات .
لذلك نبهه ( زكريا ) لمغبة ما سيفعله ، وأنه سيعاني أكثر مما فات .. فهو إن كان يقتصد بإرادته ، لكنه مع ذلك كان يجد ما يسد به رمقه ، أما بتهوره هذا سيعاني أكثر بكثير مما عاناه ، وسيفقد كينونته وذاته .. سيفقد نقاء روحه وطهارته .
وها هو الآن جاء محاولاً منعه من السقوط في لجٌة التمرد الآسن .
كرر ( زكريا ) جملته ، قائلاً :
-لا تتسرع يا ولدي وتهدم حياتك .
أرتسمت ملامح الأسى على وجهه ، وهو يقول :
-حياتي محطمة منذ الأزل ،ودائماً أعاني الحرمان .. لن أحرم نفسي من شيء مرة آخرى أبداً .
هتف ( زكريا ) في ضراعة : يا ولدي .. ما هي إلا تجربة خاسرة ولكنها ليست كل شيء .. الطريق طويل والزمن أمامك .
سالت دمعة ساخنة على وجنة ( سعيد ) وهو يقول بصوت مختنق :
-لماذا ؟ ولمن ؟
-لنفسك أولاً .
-نفسي تعاني الحرمان .
-ستعاني أكثر لو فعلت .
تأمله ( سعيد ) بوجه عابس ، وعينان تقطران العبرات .. ثم أطرق رأسه وأنصرف .. حاول ( زكريا ) منعه لكنه لم يكن يستمع لصوت العقل والمنطق، وأنصرف معلناً أن وقت التمرد قد حان .
كفاه ما ناله من حرمان بدني وعاطفي .. حرمان من كل شيء وأي شيء في الحياة .. الحياة التي لم يستشعر منها إلا مرها ، ومرارتها في حلقه تخنقه .
سيعيش اللحظة مهما كان ومهما سيكون الثمن فيما بعد قاسياً .



الخطوة النهائية .. قصة قصيرة


الخطوة النهائية*
بقلم : علاء محمود


طفت السحب الركامية الداكنة فوق زئير الرياح القارصة ، وأشتركا معا في صنع عاصفة
رعدية هوجاء ، تتغلل داخل الأجساد لتمنحها؛ كم وافر من القشعريرة .
وسرعان ما تمزق الكون عن هزيم مدوي للرعد . تعقبه بعد هنيهة شبكة متعرجة
من البرق المشحون بالكهرباء الإستاتيكية ، ليتساقط المطر مدرارا مغرقا
الطرقات ، بحباته التي أخذ تتواصل مع شقيقاتها في رسم قنوات مائية متعكرة بالأتربة .

تأمل ( أحمد ) قطرات المطر، وهي تسيل على واجهة النافذة الزجاجية ،
كعروق بلورية شفافة ،ثم ألتفت إلى صديقه ( عمرو)، الذي جلس مرتجفا يحاول أن يلملم أطراف سترته ،علها تهبه إحساس غائب بالدفء.وقال:
- هل أتخذت قرارك النهائي ؟

أجابه ( عمرو ) وهو يصتك من البرد :
- نعم .

مط ( أحمد ) شفتيه ، قائلا :
- ألا تعطي لنفسك برهة للتفكير ؟

صمت (عمرو) مفكرا في إيجاد أي مخرج ، ثم أشعل سيجارته بتوتر ونفث دخانها إلى غياهب المجهول و أبتسم في أسى ، وهو يجيب :
- نعم .. فليس أمامي حل آخر .

ألتمع البرق على صدغ ( أحمد) الأيسر ، وهو يقول :
- ولكنك بهذا قد تتسبب في مصرعه !

هتف ( عمرو ) بعصبية :
- هل لديك حل بديل ؟

تراجع ( أحمد ) مستنكرا :
- أنت تعلم اني لا أستطيع إسداء النصح لك ، فهذا مخالف للقواعد .

عض ( عمرو ) على نواجزه ، قائلا في آسى :
- أعلم .. ويؤسفني أن تأتي النهاية بهذه الطريقة .
وأعقب قوله بحركة شديدة العصبية ، وهو يدفع شيئا أمامه على المائدة .

جلس ( أحمد ) قبالته وهو يبتسم في ظفر ، قائلا :
- كش .. مات .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فازت بالنشر في كتاب نيسابا3 الصادر عن دايموند بوك ، وتم نشرها على موقع بص وطل تحت إسم النهاية .


الخميس، 15 يناير 2009

يد المساعدة .. قصة قصيرة


يد المساعدة*
بقلم : علاء محمود


غادر منزله المتصدع الذي تساقطت جدرانه الخارجية، وكلح لونها الباهت الذى تبدل من الأصفر إلى الرمادي بفعل ضربات الزمن وعوامل الطقس المتبدل الفصول، ونشعت على حوائطه الطحالب الخضراء والرطوبة التي تبلورت كحبيبات هشة من الثلج، لترسم لوحة تعبيرية متناغمة عن شظف الحياة.

اندفعت نسمات الصباح البكر إلى صدره، لتمده باكسجين نقي، وتتفاعل مع شعيراته الهوائية التي أخذت تتلقفه في نهم طاردة أثار الأمس الضارة، على هيئة سعال رقيق، ثم تصاعدت من فمه متكاثفة بعد إصطدامها بموجة البرد الشتوي القارص، متشكلة على هيئة دخان متصاعد مشابه لدخان سجائره التي أدمنها. كان في طريقه إلى عمله ككل يوم، سائراً بخطى هادئة. تغوص قدمه في الأرض الطينية التي تبللت من أمطار الأمس، لتزداد طبقات الطمي إلى نعال حذائه ممتزجة بأوحال قديمة وأوساخ مزمنة، وتشترك مع بنطاله الممتليء بعدة ثقوب في أكثر من موضع، وقميصه الذي حال بياضه إلى شيء عجيب مموه، وسترته القديمة قدم الدهر، إلى رسم صورة واقعية لموظف هذا العصر.

انحرف ليعبر نهر الطريق في حذر، وتأمل تلك العجوز وهي تتقدم نحو سيارة متوقفة، وتبسط يدها وهي تتفوه بكلمات بددت الرياح معظمها.. نظر إليها في إشفاق ، وإلى ذاكرته أندفعت عبارات وجمل الأمس، لتمتزجا مع بعضهما وتشكل حواراً دار بينه وبين زوجته، حين قالت:

- المرتب أصبح لا يكفي شيئا وولدينا يريدان دروساً، وعريس إبنتك يتسائل: متى سنتم إكمال ما علينا من أجهزة وأثاث؟ أشعل سيجارته وهو يجيبها في حنق:

- وماذا بيدي كي أفعله؟ هل أسرق؟
-
أجابته وهي تشيح بكفها :
- لم يطالبك أحد بمخالفة ضميرك ولكن، لابد أن تجد لنا مخرجاً.

شعر بالدماء تحترق داخل عروقه ، فهتف بصوت هادر:
- تباً لكِ ولكم جميعا، أنا أبذل من الجهد ما يكفي لبناء هرم رابع.

مصمصت شفتيها وهي تقول بمرارة مشوبة بلمحة سخرية :
- حسناً ولكن نصيحة لك، مجهودك هذا ما عاد يكفي.

- إذا إنطحي رأسك بأقرب جدار.


- لقد أصبحت لا تطاق، لا أعلم لماذا تزوجت رجل قليل الحيلة مثلك؟

- وأنا لا أعلم لماذا تزوجت إمراءة سليطة اللسان؟

وتحولت المحادثة إلى شجار، برنامج يومي يعرض على مسرح الحياة.

قطع حبل أفكاره أصوات رتل السيارات التي تنهب الأرض. فحاول بقدر الإمكان الأبتعاد قليلا حتى لا تلقي عليه مياة الطريق.. وتأمل العجوز مرة آخرى وهو حائر.. وأخذ يفكر هل يمد لها يد المساعدة ؟
مد يده إلى جيب معطفه يحصي النقود الزهيدة، ثم تناسى كل شيء وعاد بذاكرته إلى حديث آخر، مع طبيب الحي الشاب، الذي يعالج أهل منطقتهم بمبالغ قليلة مقدراً ظروفهم المعيشية الصعبة.

قال بغبطة :
- ليت كل البشر مثلك أيها الطبيب.

هز الطبيب رأسه ، وهو يقول :
- أنا لا أفعل شيئا زائدا، فهذا حقكم على فأنتم أهلي وعشيرتي.

شكره بحرارة وقال :
- بارك الله فيك وفي أمثالك.

رفع الطيب صورة الأشعة في الضوء ، وقال :
- دعني أفحص الآشعة والتحاليل لأخبرك عما بك.

أومأ برأسه متفهماً ، وقال :
- حسنا. أكمل ما تفعل.

أخذ الطبيب يراجع ما بيده، وأرتسمت على ملامحه علامات الآسي، وهو يقول:

- كما قدرت سابقا. كليتاك توشكان على الأنهيار.

شعر بالأرض تميد تحت قدميه . حاول الإستناد على أقرب مقعد . تهاوى عليه ، وهو يقول بصوت متحشرج :
- وهل يوجد علاج؟

أجابه الطبيب بصوت خفيض :
- توجد طريقتان للعلاج. زرع كلى أو تقوم بعملية غسيل كلوي ثلاثة مرات أسبوعيا.

مط شفتيه بحسرة ، وقال بمرارة :
- لماذا؟

نظر له الطبيب بعدم فهم ، وسأله :
- لماذا ماذا؟

نكس راسه أرضاً ، وهو يغمغم :
- لماذا أصابني هذا المرض اللعين؟ ألا يكفيني كل ما بي من مشاكل.

- إذا كان في كلماتي عزاء لك، يوجد الكثيرين غيرك مصابين بنفس الداء.

- وبالطبع زرع الكلى باهظ الثمن.

- نعم.. يبقى أمامك عملية الغسيل.

أنتزعته من ذكرياته الرذاذ المتناثر عليه من جراء السيارات التي تنهب الطريق، فهتف في حنق:

- أسرعوا أيها الحمقى حتى تلحقوا بمهامكم الخطيرة. لمح مرة آخرى السيدة العجوز وهي تتلمس طريقها في صعوبة، وجائته هذه المرة مفردات كلماتها بوضوح وهي تهتف في وهن ممزوج بحزن دفين:

- ابنتي في أمس الحاجة للعلاج.. أرجو مساعدتكم يا أهل المرؤة فليس لي في الدنيا غيرها.. هي من تقوم على مساعدتي ولكنها سقطت طريحة الفراش.

داعب النقود التي تحتل جيبه، ثم حسم أمره وذهب إليها بخطى واثقة، ومد كفه ببعض ما يحمله من نقود زهيدة.. تأملت العجوز ملابسه المزرية، وسالت من عينيها العبرات، وهي تقول:

- لكن ...

قاطعها هو في اصرار:

- خذيهم يا والدتي.

أخذتهم العجوز وهي تدعو له في أمتنان، وأنصرفت في خطى واهنة.. تأملها لحظات ثم أنصرف إلى حال سبيله والسيارات الفارهة ما زالت تعبر بجواره.. دون توقف.




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تم نشرها على موقع القصة العربية وموقع بص وطل تحت إسم مساعدة
.

في سكون الليل .. قصة قصيرة




في سكون الليل*
بقلم : علاء محمود


تلفح بعبائة الليل السوداء وهو يتقدم في بطء متعكزا على الجدار. شعرت أنامله بأسياخ الحديد التي كشفت عنها الكتلة الخرسانية. وتسللت إلى أنفه رائحة الشواء الشنيعة. تأمل الطريق أمامه الذي تكشف على ضؤ القمر المختنق بنتف السحب.. تأمل المنازل.. منازل نصف متهدمة، ومنازل فقدت أدوارها العلوية.. منازل ذهبت عنها جدرانها، ومنازل تنفث دخان أسود. الطريق نفسه امتلأ بأشكال من الحفر.. حفر بحجم كرة قدم، وحفر بحجم عمائر.. حتى الجثث أختلفت ألوانها.. لكنه واصل المسيرة، وتقدم بكل إصرار. فهو أبدا لن يتراجع.. لقد حسم أمره تماما.

دنى أكثر من مبتغاه، وشعر عندما أقترب بعضلة قلبه ترتجف، وبأعصابه تهتز.. هو ليس بجبان.. لكنه رغما عنه متوتر، ورغما عنه أيضا دار شريط من الذكريات في عقله.. ليرى صورا تتتابع كالبرق.. صور بلون الدم.. نار ودمار.. عجائز قتلى وأطفال.. شهداء أبرار.. أيام عذاب وحصار.. ثم استقرت صورة واحدة.. صورة حبيبته وهي تبكي بألم وتهتف متوسلة:

- ألا يوجد طريق آخر ؟

- نعم

- سأتعذب من ألم الفراق

- وستفرحين بما سأذهب إليه؟

- سأفقدك كما فقدت عائلتي.

- وستربحين وطنا.


توقفت ذكرياته عند هذا الحد.. وأخذ نفسا عميقا ثم تلا الشهادة، وشعر بثقة تغمر نفسه وروحه.. ثم تقدم بإصرار حذر.. وتلاشى في غياهب الظلام.. بعد برهة دوى إنفجار هائل مزق سكون الليل.. وأضاء سماء المنطقة بنيران كالجحيم.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تم نشرها في موقع القصة العربية ، وموقع بص وطل تحت إسم واحد منهم .


طفل الطريق .. قصة قصيرة



طفل الطريق*
بقلم : علاء محمود


ألم جوفه يؤلمه ، وعيناه تبحث عن طعام..
كل يوم يبدأ جولته .. ينبش صناديق القمامة .. يتسول من المارة ، ولكن..
اليوم لم يضع لقيمة في جوفه ، والمارة يتحاشونه كأنه وباء.. حتى صناديق القمامة بخلت عليه بأية بقايا من الأطعمة ..
يتأمل نفسه في واجهة أحد المحال الزجاجية .. تري هل كان بهذه القذارة منذ أن وعت عيناه الدنيا؟
هل كانت ملابسه الرثة بهذا السؤ؟
لا يهم أن يحصل على أي إجابات الآن .. الأهم أن يجد ما يسد به رمقه ..
تسللت إلى أنفه رائحة شواء شهية للغاية ،فأخذ يتتبعها ككلب ضال حتى وجد منبعها .. محل للأطعمة والمشويات .. أخذ يراقب يدي الحاتي وهي تعمل بمهارة وحنكة ، وبحسرة تأمل القطط الضالة وهي تلتهم بعض الفضلات المتساقطة من بين يدي الحاتي ..
ولم يجد امامه - بعد الجوع الهائل- غير طريقة واحدة ..
أنقض كالبرق ليختطف أحد أسياخ اللحم الموضوعة فوق الجمر الملتهب ، وركض بكل ما يملك من سرعة ..
الحاتي أخذ يصيح بغضب شديد ويركض خلفه .. ولكن ..
مشهد الفتى وهو يعبر نهر الطريق ،ثم نعيق تلك السيارة المسرعة جعله يتسمر مكانه ..
السيارة ترفع الصبي ثم تلقيه بقوة فاقدا الحياة ..
المارة يهرعوا لمحاولة إنقاذ أخيرة ولكن .. الدماء التي أخذت ترسم خطوطا لولبية أعلنت أن وقت المساعدة قد ولى.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فازت بالنشر في كتاب نيسابا3 الصادر عن ديموند بوك