الجمعة، 16 يناير 2009

خريف بنكهة الفانيلا .. قصة قصيرة



خريف بنكهة الفانيلا
بقلم : علاء محمود

في كل ليلة إذا الصمت جاء النسيم يداعب المدى . يرقص مع الأزهار وأريجها. يذروها كى يتنشقها؛ فينسل بين الشرايين والأفئدة. 
عيناه شاخصتان ترنو إلى الأبعاد، والأبعاد تٌحدد تجليات . التجليات تنزاح عن أرض مخضلة تفتأ نضراَ . مروجاً غناء . ألوان شتى من الورود والفاكهة والأعناب، شذاها يعبق المكان . عنادل تشدو في الوجود، وفراشات تدنو من الياسمين المغموسة بالندى.يخطو الأرض المعشوشبة، يتأمل السحر الآخاذ . يتعمق في حواشيه و يمتزج في ذاته غورا . يركب أجنحته ويحلق في هيام .. ها هي ترتكن إلى شجرة سرو، وبجوارها جدول ذهبي يفيض سلسبيلاً متلألأً . بين كفيها يقبع القمر بلور نقي مليء بسائل نوراني . في جوفه زهور الفانيلا .

يتنشق أريجها ويزيد . 

*****

الشمس قرص اصطبغ بالأحمر القاني . حفحفات الخريف في ذبول واندحار، تحيل العشب إلى هشيم تذروه الرياح . الأشجار تحترق والأوراق تفقد النضرة . تصفر وتتهشم على الأرض الجرداء . العنادل تفر . الخريف يغزو . السماء دم . تكشط عن عاتقه أبجدية النهاية .

*****

تداعيات غفت أسفل الغمام . الأمنيوسي يحيط به .. يتعلق كالوطواط . يستبطن العالم ويستجليه . يغمس خطوته ثم يجترها . الزغب يتناثر على حناياه . يبتغي الظل والزاد والمورد . من الخزى والفشل ملء نصابه . يقوده من تيه إلى تيه .استجدي انتماءه لكنه إستحال حجرا . 

*****

في سديم الفضاء مدار النجوم تغير، وفي إشراقته الأولى غريب مزقه الشتات، و بساط من تعب افترشه . لكن كيانه امتلأ حبوراً .. في الليل دمعته تكويه . لكن أطياف البعد تنير قلبه المسهد، وتمنحه هبات نسيم تنعش ذاته. 

*****

المدينة نائمة و ميادينها الجهْمةِ خَاويهْ، والصمت في الأروقة . نار الشر تستعر . الهدوء يجثم .
الأطلال تنتصب، ومن جوفها تندلع الحمم الملتهبة . السماء ترعد وتجلجل و تمطر شواظا ونيازك، والليث مشرد النفس، يضحى نعجة مذعورة، ويختبيء في جحر. 

*****

أمسكوه وعلى الأرض سحلوه . يصرخ ويصرخ . كذبوه . أخذوه . على المقعد كبلوه . جردوه كيوم مولده . الإبر الملتهبة بين الظفر واللحم . صرخاته تتعالى في عذاب لا يتوقف لهنيهة . 
الكلابات المعدنية تنتزع أظافره، والمطارق تفرم لحمه بعظامه . 
يصرخ ويصرخ .
جلدوه ومزقوه . أحرقوا جلده وفي زنزانة ضيقة رطبة ألقوه .
يرقد بجسد مثخن بالجراح . يصرخ من الألم . الأرض تندى بماء يستحيل بردا . الزنزانة تئن والباب يصر . تدلف كلاب سوداء بشعة جائعة . تنهش لحمه وتمضغ عظامه .
يصرخ بحنجرة تكاد تتمزق . صراخه يزيد وعذابه فوق طاقة البشر . عذاب يلهب مركزه العصبي . يئن بصوت هادر : آه .

أخرجوا جسده المتمزق وأجزاءه المفقودة . وعدوه بتطهير ما تخثر .

*****

الجدران تذوب، تتحلل . تنتصب مكانها جدران آخرى بيضاء، وفراش أبيض وملاءة . من الشرفة يلمحه يرفرف كانتمائه مزدانا بنجوم خضراء . الصراخ يتعالى يكاد يهدم الجدار. يبغي الراحة من الآلام التي لا تطاق . كان دواؤه هو الداء .. إلى الفراش كبلوه، وبالمحقن وخزوه . يتلاشى الألم، ويتجلى الفردوس المنشود.

*****

الفردوس يحترق .الموجودات تتلاشى . أمسى على شفا جرف هار . الموجودات تضمحل إلى شفرة حادة . النيران تتأجج . الإتزان يُفقد . النيران تستعر . يهوي ويهوي . الجحيم يتلقفه ويمتزجان معاً في عذاب أبدي .

ساعة الغسق جثته ملقاة، وعلى السطح الزجاجي بقايا من مسحوق أبيض .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق