الثلاثاء، 9 يونيو 2009

الصوت الضائع في المدى .. قصة قصيرة

" الصوت الضائع في المدى "
علاء محمود 



السواد مدلهم، طاغٍٍ ٍ، أبدي . أناملكِ تتوحد مع الجدار البارد . تهبط وتصعد . تمتد . يتلاشى الجدار، ويتبدل الملمس. سطح أملس منتشرة عليه بعشوائية ثقوب متناهية الصغر. تهبط أناملكِ وتبحث. تعانق قطعة معدنية وتديرها لأسفل. تغيبين بالداخل هنيهة بين أصوات صرير وقعقعقة وطرطشة. تخرجين . وجهكِ يغوص في قطعة لينة، ويتنقل بحناياه في حنكة.
رائحة البيض المقلي، والفول المدمس تفعم أنفكِ. يخترق مسامعكِ صوت حفيدتكِ وهي تقول:
- لقد حضرت طعام الأفطار، ووضعته على المائدة . سأنصرف الآن؛ فاليوم لدي امتحان بالغ الأهمية. أدعي لي بالتوفيق.

تقولين لها بلهجة حنونة:
- وفقكِ الله يا حبيبتي . سأدعو لكِ بالتأكيد.

صوت خطوات يعقبها صرير . الباب يوصد، والخطوات تنتقل إلى درجات السلم . بينما أخذتِ أنتِ تدعين الله أن يوفق حفيدتكِ الوحيدة.

يتناهى إلى مسامعكِ صوت قادم من الخارج. صوت عجيب غير مألوف! هل سمعتيه قديماً ؟ أم هو صوت تسمعينه لأول مرة؟
 تشرئبين بعنقكِ وتتنصتين باهتمام شديد، والحيرة تنحت ملامحكِ. تتقدمين ببطء شديد مصوبة أذنكِ تجاه النافذة.
يتناهى إلى مسامعكِ حفحفات أوراق الشجر ونسمات الهواء تتخللها.. عصافير تزقزق وترفرف في اصطخاب مبهج . خشخشةأوراق مهملة يعبث بها الهواء. خطوات ثقيلة بطيئة، وآخرى خفيفة كالحلم، وثالثة تتلاعب بالحصوات الصغيرة وتركلها. نفير حافلة المدرسة المميز وصرير بابها مختلطاً بضغط الهواء . الصوت الأخير كان له تأثير كبير على أوشاجكِ. تدركين أنه ليس هو لكنكِ –غصباً عنكِ- تتذكرين وأنتِ صغيرة مترجلة على عجل . السيارات تعبر بجواركِ غير مبالية . الأسفلت مصقول ولامع من قطرات المطر . الإجهاد يغزو عضلاتكِ الرقيقة، والطريق طويل لا ينتهي . تصلين إلى مدرستكِ بحذاء قد بلى، وقد اتخذ باطن قدمكِ هيئته وفجواته. كان عليكِ أن تكرري هذا يومياً في الذهاب والإياب . شعور عارم بالقهر والظلم يكتنفكِ . تجلسين على حافة الرصيف هنيهة لتستريحي، وبحسد تتأملين زميلاتكِ وهن يهبطن من الحافلات والسيارات. غصباً عنكِ تتفجر الدموع من مآقيكِ .

عاودتِ التنصت في اهتمام أكبر. ما سمعتيه منذ قليل تعرفين كنهه يقيناً بالتأكيد، لكنه ضائع في غياهب وجدانكِ... نغمات موسيقية راقصة تنساب إليكِ، مختلطة بكلمات مبهمة، تمنحكِ انقباضاً مؤلماً وذكرى كئيبة. ذكرى أصوات صاخبة. الفتيات تتراقص وتصفق... بينما أنتِ ترمقين الرجل الجالس بجواركِ . هيئته تقترب من ملامح عمكِ الطاعن في السن، وليس كزوج من جيلك. الدموع تنساب على وجنتيكِ في غزارة، وأنتِ ترين حلم الدراسة يتم وءده . كم كان أملكِ أن تكوني شيئاً كبيراً . شعرتِ بذلك في نظرات مدرسيكِ . واحترام زميلاتكِ لكِ . ترينها في نضجكِ السابق للأوان . في ترككِ اللهو في سبيل أن تقرأي رواية جديدة أو مقالة داخل مكتبة المدرسة ... عادت دموعكِ تنساب في غزارة وسيل لا ينقطع.

الأصوات كثيرة مختلطة . تجاهدين كي تصفيها كل على حدة. خطوات تهبط درجات سلم البناية، يعقبها سعال حاد متقطع. لابد أنه عم هلال القاطن في الطابق الخامس. صوت امرأة يعلو محتجاً في عصبية، وصوت رجل يحاول تهدئتها. المرأة تزعق تصرخ . يذكرك صراخها بشيء ما . كأنكِ في كابوس مخيف . أقدام كقضبان كثيفة سوداء، وأصوات جوفاء تصرخ وكأنما يخنقها اصطخاب شيء ما ! بلبلت حواسكِ بالأنفعال وشعور جارف بالرعب والفزع . 
تساءلتِ في هلع عما يحدث ؟ وما أن آتاكِ الجواب صرختِ وصرختِ حتى أجهدتِ . إرتميتِ على فراشكِ تلهثين كالغريقة ... لقد تركِ زوجكِ وأنتِ فتية في عنفوان الصبا . تركِ وسط فراغ خاذل ، ووحدة مضنية . 
لمحتِ وليدكِ – الذي صار يتيمًا- واقفا كالممسوس . شيئاً من صمته الشاجي، ورهبته الغاشية مست شغاف قلبكِ، فقمعتِ دموعكِ، وكفكفتِ نشيجكِ . احتضنته في حنان . لقد أضحى عالمكِ الذي تدورين في فلكه، ويجب أن ترعيه حتى تري فيه حلمكِ القديم الموؤد.

الأصوات تهدأ وتتفرق . صوت جهور ينادي بكل ما يملك من طاقة . خطاب مرسل إلى جارك. هذا الصوت ينعش ذكرياتك التي باتت كضوء شاحب . لا يضيء ولا يظلم . تتذكرين حين أذهلكِ النبأ، وصدمكِ ، وترككِ مشدوهة حيرى . انفجر صراخكِ من الأعماق ، تصاعد حارا كبركان يقذف بحممه . أحسستِ بالعبرات تترقرق في مآقيكِ . حاولتِ عبثاً أن توقفي انهمارها ، ورغماً عنكِ انبثقت وانحدرت على وجنتيكِ .
عانيتِ حياة كئيبة . طبُعت حياتكِ بالحزن، والكآبة، والجهامة، والاكتئاب، والشعور بالمسئولية، كنتِ ترزحين تحت وطء أقدح الأحزان . لكنكِ لم تتخيلين أن الحياة ستلطمكِ بهذه اللطمة القاضية.
تلمستِ بحسرة الخطاب المُرسل إليكِ . عاودتِ قراءته مراراَ . كان نص الخطاب يطالبكِ بالحضور لاستلام رفات ولدكِ الآتية من الخارج . ولدكِ الذي عانى الأمرين حتى طفح به الكيل؛ فسافر إلى الخارج وترك لكِ ابنته الصغيرة. سافر وروحه مفعمة بالأمل لحياة أفضل لكِ وله ولزوجته وأبنته. 
طفرت العبرات من عينيكِ، وأنتِ تشهقين في ألم . ضغطتِ بأسنانكِ على شفتيكِ حتى أدميتها . هتفتِ بكل المرارة والثورة في أعماقكِ : " لماذا تركتني يا ولدي ؟ لماذا دمرت أحلامي بهذه الوسيلة المفجعة ؟ "
أخذتي تبكين حتى دميت أجفانكِ وجفت مآقيكِ، وحتى سقطتِ أسيرة الظلام .

الصوت يعود مجدداً. يصل إلى مسامعكِ بوضوح، لكنكِ ما زلتِ لا تستطعين سبر أغواره . جاهدتِ كي تفكِ طلاسمه . مقطع متكرر من حرفين . طريقة النطق ذاتها إيقاعها غريب، وإلقاءها أغرب "ها.ها.ها !!"
الوقفة تنهككِ، والتفكير يرهقكِ، والجوع ينهش أحشاءكِ. تتلمسين طريقكِ إلى الداخل؛ بينما الصوت كان قد تلاشى إلى غير رجعة.
أو ربما قد يعود.

هناك 3 تعليقات: